فصل: الأحكام الشرعية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روائع البيان في تفسير آيات الأحكام



.التحليل اللفظي:

{أُحْصِرْتُمْ}: الإحصار في اللغة معناه: المنع والحبس، يقال: حَصَره عن السفر وأحصره عنه إذا حبسه ومنعه قال الشاعر:
وما هجرُ ليلى أن تكون تَباعدت ** عليك ولا أن أحصرتْكَ شُغُول

قال في (اللسان): الإحصار أن يُحضر الحاج عن بلوغ المناسك بمرضٍ أو نحوه.
قال الفراء: العرب تقول للذي يمنعه خوف أو مرض من الوصول إلى تمام حجه أو عمرته: قد أُحْصر، وفي الحبس إذا حبسه سلطان، أو قاهر مانع: قد حُصِر.
وقال الأزهري وأبو عبيدة: حًصر الرجل في الحبس، وأحصر في السفر من مرضٍ أو انقطاع به.
{الهدي}: الهديُ ما يهدى إلى بيت الله من بدنة أو غيرها، وأصله هديٌّ مشدد فخفّف، جمع هديّة قاله ابن قتيبة، وقال القرطبي: وسميت هدياً لأن منها ما يهدى إلى بيت الله.
{مَحِلَّهُ}: المحلّ بكسر الحاء الموضع الذي يحل به نحر الهدي وهو الحرم، أو مكان الإحصار.
{نُسُكٍ}: النّسك: جمع نسيكة وهي الذبيحة ينسكها العبد لله تعالى وأصل النسك العبادة ومنه قوله تعالى: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} [البقرة: 128] أي متعبداتنا.
{رَفَثَ}: الرفث: الإفحاش للمرأة بالكلام. وكل ما يتعلق بذكر الجماع ودواعيه، وأنشد أبو عبيدة:
وربّ أسراب حجيجٍ كظّم ** عن اللغا ورفث التكلم

{فُسُوقَ}: الفسوق في اللغة: الخروج عن الشيء يقال: فسقت الرطبة: إذا خرجت من قشرها، وفي الشرع الخروج عن طاعة الله عز وجل، ومنه قوله تعالى في حق إبليس: {كَانَ مِنَ الجن فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: 50] والمراد في الآية جميع المعاصي.
{جِدَالَ}: الجدال: الخصام والمراء، ويكثر عادة بين الرفقة والخدم في السفر.
{الزاد}: ما يتزود به الإنسان من طعام وشراب لسفره، والمراد به التزود للآخرة بالأعمال الصالحة قال الأعشى:
إذا أنت لم ترحل بزادٍ من التُقى ** ولاقيتَ بعد الموتِ من قد تزودّا

ندمتَ على ألاّ تكون كمثله ** وأنك لم ترصد كما كان أرصدا

{جُنَاحٌ}: الجناحُ: الحرج والإثم من الجنوح وهو الميل عن القصد وقد تقدم.
{أَفَضْتُم}: أي اندفعتم يقال: فاض الإناء إذا امتلأ حتى ينصبّ على نواحيه.
قال الراغب: فاض الماء إذا سال منصباً، والفيضُ: الماء الكثير، ويقال غيضٌ من فيض، أي قليل من كثير، وقوله تعالى: {أَفَضْتُم مِّنْ عرفات} أي دفعتم منها بكثرة تشبيهاً بفيض الماء.
وقال الزمخشري: أفضتم: دفعتم بكثرة، وهو من إفاضة الماء وهو صبه بكثرة، وأصله أفضتم أنفسكم، فتُرك ذكرُ المفعول.
{عرفات}: اسم علم للموقف الذي يقف فيه الحجاج، سميت تلك البقعة عرفات لأن الناس يتعارفون بها، وهي اسم في لفظ الجمع (كأذرعات) فلا تجمع.
قال الفراء: عرفات جمع لا واحد له، وقول الناس: نزلنا عرفة شبيهٌ بمولّد. وليس بعربي محض. وقوله صلى الله عليه وسلم: «الحج عرفة»
هو اسم لليوم التاسع من ذي الحجة وهو يوم الوقوف بعرفات، وليس اسماً للمكان كما صرح به الراغب.
{المشعر الحرام}: هو جبل المزدلفة يقف عليه الإمام، وسمي (مَشْعراً) لأنه مَعْلم للعبادة، ووصف بالحرام لحرمته.
{مَّنَاسِكَكُمْ}: المناسك جمع (مَنْسَك) الذي هو المصدر بمنزلة النسك، أي إذا قضيتم عباداتكم التي أمرتم بها في الحج، وإن جعلتها جمع (مَنْسَك) الذي هو موضع العبادة كان التقدير: فإذا قضيتم أعمال مناسككم فيكون من باب حذف المضاف أفاده الفخر.
{خَلاَقٍ}: أي نصيب وقد تقدم، ومعنى الآية: ليس له في الآخرة نصيب من رحمة الله.

.المعنى الإجمالي:

أمر الله المؤمنين بإتمام الحج والعمرة، وأداء المناسك على الوجه الأكمل ابتغاء وجه الله، فإذا مُنع المحرم من إتمام النسك بسبب عدوٍ أو مرض، وأراد أن يتحلل فعليه أن يذبح ما تيسّر له من بدنة، أو بقرة، أو شاة، ونهى تعالى عن الحلق والتحلل قبل بلوغ الهدي المكان الذي يحل ذبحه فيه، أمّا من كان مريضاً أو به أذى في رأسه فإنه يحلق وعليه فدية، إمّا صيام ثلاثة أيام، أو يذبح شاة، أو يتصدق على ستة مساكين، لكن مسكين فدية، صاعٍ من طعام فمن اعتمر في أشهر الحج واستمتع بما يستمتع به غير المحرم من الطيب والنساء وغيرها فعليه ما استيسر من الهدي شكر الله تعالى، فمن لم يجد الهدي فعليه صيام عشرة أيام، ثلاثة حين يحرم بالحج وسبعة إذا رجع إلى وطنه. ذلك التمتع خاص بغير أهل الحرم، أما أهل الحرم فليس لهم تمتع وليس عليهم هدي.
ثم بيّن تعالى أشهر الحج وهي (شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة) وأمر من ألزم نفسه الحج بالتجرد عن عاداته، وعن التمتع بنعيم الدنيا، لأنه مقبل على الله، قاصد لرضاه، فعليه أن يترك النساء والاستمتاع بهن، وأن يترك المعاصي والنزاع والجدال مع الناس، وأن يتزود من الأعمال الصالحة التي تقربه من الله.
ثم أبان تعالى أن الكسب في أيام الحج غير محظور، وأن التجارة الدنيوية لا تنافي العبادة الدينية، وقد كان الناس يتأثمون من كل عمل دنيوي أيام الحج، فأعلمهم الله أن الكسب فضل من الله لا جناح فيه مع الإخلاص ثم أمر تعالى الناس بعد الدفع من عرفات، أن يذكروا الله عند المشعر الحرام، بالدعاء والتكبير والتلبية، ون يشكروه على نعمة الإيمان، فإذا فرغوا من مناسك الحج، فليكثروا ذكر الله وليبالغوا فيه كما كانوا يفعلون بذكر آبائهم ومفاخرهم.
روي عن ابن عباس أنه قال: كان أهل الجاهلية يقفون في الموسم، يتفاخرون بمآثر آبائهم، يقول الرجل منهم: كان أبي يُطعم، ويحمل الحمالات، ويحمل الديات، ليس لهم ذكرٌ غير فعال آبائهم فأنزل الله: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ فاذكروا الله كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً}.

.وجه الارتباط بالآيات السابقة: ذكرت أحكام الحج بعد ذكر أحكام الصيام، لأن شهوره تأتي مباشرة بعد شهر الصيام، وأما آيات القتال السابقة فقد نزلت في بيان أحكام الأشهر الحرم، والإحرام، والمسجد الحرام، ولما كان عليه السلام قد أراد العمرة وصدّه المشركون أول مرة بالحديبية، وأراد القضاء في العام القابل، وخاف أصحابه غدر المشركين بهم أنزل الله أحكام القتال، ثم عاد الكلام إلى إتمام أحكام الحج فهذا هو وجه الارتباط والله تعالى أعلم.

.سبب النزول:

أولاً: عن كعب بن عُجرة رضي الله عنه قال: «حُملتُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي، فقال: ما كنتُ أرى أن الجهد بلغ بك هذا!! أما تجد شاة؟ قلت: لا، قال: صم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، لكل مساكين نصف صاع من طعام واحلق رأسك» فنزلت: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ} قال فنزلت فيّ خاصة وهي لكم عامة.
ثانياً: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودن، ويقولون: نحو المتوكلون فيسألون الناس، فأنزل الله تعالى: {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى}.
ثالثاً: عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة، وكانوا يسمون الحس، وسائر العرب يقفون بعرفات) فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه أن يأتي عرفات ثم يقف بها يفيض منها فذلك قوله: {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس}.
وفي رواية كانوا يقولون: (نحن أهل الله وقطّان حرمه فلا نخرج منه ولا نفيض إلا من الحرم).

.وجوه القراءات:

1- قرأ الجمهور: {أو نُسُكٍ} بضم النون والسين، وقرأ الحسن: {أو نُسْكٍ} بسكون السين.
2- قرأ الجمهور: {فلا رفثَ ولا فسوقَ ولا جدال في الحج} بالفتح في الجميع، وقرأ أبو جعفر وابن كثير بالرفع في الجميع {فلا رفثٌ ولا فسوقٌ ولا جدالٌ في الحج}.

.وجوه الإعراب:

1- قوله تعالى: {فَمَا استيسر مِنَ الهدي} قال الزمخشري: رفع بالابتداء أي فعليه ما استيسر، أو نصب على تقدير: فاهدوا ما استيسر.
2- قوله تعالى: {الحج أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ} (الحج) مبتدأ و(أشهرٌ) الخبر، والتقدير: أشهر الحج أشهر معلومات كقولهم: البرد شهران أي وقت البرد شهران.
أقول: إنما قدّر العلماء ذلك لأنه من المعلوم أن الحج ليس نفس الأشهر.
3- قوله تعالى: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ} (لا) نافية للجنس (رفث) اسمها و(في الحج) الخبر و(لا) مكررة للتوكيد في المعنى وهو خبر يفيد النهي أي لا ترفثوا ولا تفسقوا.
4- قوله تعالى: {واذكروه كَمَا هداكم} الكاف نعت لمصدر محذوف و(ما) مصدرية والتقدير اذكروه ذكراً حسناً كما هداكم هدايةً حسنة، ويجوز أن تكون الكاف بمعنى (على) والتقدير: اذكروا الله على ما هداكم، وقوله تعالى: {وَإِن كُنْتُمْ} إنْ مخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة.

.لطائف التفسير:

اللطيفة الأولى: الهديُ يطلق على الحيوان الذي يسوقه الحاج أو المعتمر هديّة لأهل الحرم من غير سببٍ موجب، وهذا ليس مراداً هنا، ويطلق على ما وجب على الحاج أو المعتمر بسبب موجب كترك واجب أو فعل شيء محظوراً، أو كالإحصار والتمتع وهذا هو المراد في الآية الكريمة.
اللطيفة الثانية: المراد بإتمام الحج والعمرة الإتيان بهما تامين كاملين بمناسكهما وشرائطهما ظاهراً بأداء المناسك على وجهها، وباطناً بالإخلاص لله تعالى من غير رياءٍ ولا سمعة قال الشاعر:
إذا حججتَ بمال أصله سُحُتٌ ** فما حججتَ ولكنْ حجّت العير

لا يقبل الله إلا كل خالصةٍ ** ما كلّ من حج بيت الله مبرور

اللطيفة الثالثة: في قوله تعالى: {أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} فيه مجاز بالحذف تقديره: فحلق ففدية من صيام، فحذف فحلق اختصاراً، فهو مثل قوله تعالى في آية الصيام: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] حذف كلمة (فأفطر) اختصاراً لدلالة اللفظ عليه.
اللطيفة الرابعة: التوكيد طريقة مشهورة في كل العرب فقوله تعالى: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} جاء على طريقهم في التوكيد، مثل قوله: {ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور} [الحج: 46] وقوله: {وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] وقوله: {ذلكم قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ} [الأحزاب: 4] وفيه فائدة دفع التوهم إذ أن بعض العرب يستعملون عدد السبعة للكثرة في الآحاد، كما يستعملون عدد السبعين لغاية الكثرة، فلئلا يتوهم السامع ذلك قال (عشرة كاملة) فتنبه له.
اللطيفة الخامسة: قوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس} كانت قريش لا تخرج من الحرم وتقول: لسنا كسائر الناس، نحن أهل الله وقطّان حرمه فلا نخرج منه، وكان الناس يقفون خارج الحرم ويُفيضون منه فأمرهم الله أن يقفوا حيث يقف الناس، ويفيضوا من حيث أفاض الناس، أفاده ابن قتيبة.
اللطيفة السادسة: من بلاغة الإيجاز في الآية التصريح في مقام الإضمار، بذكر الحج ثلاث مرات في قوله تعالى: {الحج أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحج} فالمراد بالأول زمان الحج، وبالثاني الحج نفسه المسمّى بالنسك، وبالثالث ما يعم الزمان والمكان وهو (الحرم) ولو قال: فمن فرضه فيهن فلا رفث ولا فسوق ولا جدال فيه، لم يؤدّ هذه المعاني كلها، وجاء بصيغة النفي لأنه أبلغ في النهي.
قال أبو السعود: وإيثار النفي للمبالغة في النهي، والدلالة على أن ذلك حقيق بألاّ يكون.

.الأحكام الشرعية:

الحكم الأول: هل العمرة واجبة كالحج؟
اختلف الفقهاء في حكم العمرة، فذهب الشافعية والحنابلة إلى أنها واجبة كالحج، وهو مروي عن (علي) و(ابن عمر) و(ابن عباس).
وذهب المالكية والحنفية إلى أنها سنة، وهو مروي عن (ابن مسعود) و(جابر بن عبد الله).
أدلة الشافعية والحنابلة:
استدل الشافعية والحنابلة على مذهبهم ببعضة أدلة نوجزها فيما يلي:
أولاً- قوله تعالى: {وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة للَّهِ} فقد أمرت الآية بالإتمام وهو فعل الشيء والإتيان به كاملاً تاماً فدل على الوجوب.
ثانياً- ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال لأصحابه: «مَن كان معه هدي فليهلّ بحجة وعمرة».
ثالثاً- ما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة».
أدلة المالكية والحنفية:
واستدل المالكية والحنفية على أن العمرة سنة بما يلي:
أولاً: عدم ذكر العمرة في الآيات التي دلت على فريضة الحج مثل قوله تعالى: {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت} [آل عمران: 97] وقوله جل ثناؤه: {وَأَذِّن فِي الناس بالحج...} [الحج: 27] الآية.
ثانياً: قالوا إن الأحاديث الصحيحة التي بيّنت قواعد الإسلام لم يرد فيها ذكر العمرة، فدل ذلك على أن العمرة ليست بفريضة، وأنها تختلف في الحكم عن الحج.
ثالثاً: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الحج جهادٌ والعمرة تطوع».
رابعاً: ما روي عن جابر بن عبد الله أنّ رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العمرة أواجبة هي؟ «قال: لا، وأن تعتمروا خير لكم».
خامساً: وأجابوا عن الآية والأحاديث التي استدل بها الشافعية فقالوا: إنها محمولة على ما كان بعد الشروع، فإن التعبير بالإتمام مشعر بأنه كان قد شرع فيه، وهذا يجب بالاتفاق.
قال العلامة الشوكاني: وهذا وإن كان فيه بعد، لكنه يجب المصير إليه جمعاً بين الأدلة، ولا سيما بعد تصريحه صلى الله عليه وسلم بما تقدم في حديث جابر من عدم الوجوب، وعلى هذا يحمل ما ورد مما فيه دلالة على وجوبها.
أقول: لعل هذا الرأي يكون أرجح والله تعالى أعلم.
الحكم الثاني: هل الإحصار يشمل المرض والعدو؟
اختلف العلماء في السبب الذي يكون به الإحصار، والذي يبيح للمحرم التحلل من الإحرام.
فذهب الجمهور (مالك والشافعي وأحمد) إلى أن الإحصار لا يكون إلا بالعدو، لأن الآية نزلت في إحصار النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، عندما منع من دخول مكة هو وأصحابه وكانوا محرمين بالعمرة.
وقال ابن عباس: لا حصر إلا حصر العدو.
وذهب أبو حنيفة: إلى أن الإحصار يكون من كل حابس يحبس الحاج عن البيت من عدوٍ، أو مرضٍ، أو خوفٍ، أو ذهاب نفقة، أو ضلال راحلةٍ، أو موت محرم الزوجة في الطريق، وغير ذلك من الأعذار المانعة.
وحجته: ظاهر الآية: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} فإن الإحصار- كما يقول أهل اللغة- يكون بالمرض، وأما الحصر (المنع والحبس) فيكون العدو، فلما قال تعالى: {أُحْصِرْتُمْ} ولم يقل (حصرتم) دلّ على أنه أراد ما يعم المرض والعدو.
واستدل بما روي عن ابن مسعود أنه أفتى رجلاً لدغ بأنه محصر وأمره أن يحل.
وحجة الجمهور أن الله تعالى ذكر في الآية قوله: {فَإِذَآ أَمِنتُمْ} وهو يدل على أنه حصر العدو لا حصر المرض، ولو كان من المرض لقال: (فإذا برأتم) ولقول ابن عباس: لا حضر إلا حصر العدو، فقيّد إطلاق الآية وهو أعلم بالتنزيل.
الترجيح: ولعلّ ما ذهب إليه الحنفية يكون أرجح، فهو الموافق لظاهر الآية الكريمة، والموافق ليسر الإسلام وسماحته، وقد اعتضد بأقوال أهل اللغة، فإنهم جميعاً متفقون على أن (الإحصار) يكون بالمرض، و(الحصر) يكون بالعدو، والآية بظاهرها تميل إلى التيسير، فإن المريض الذي يشتد مرضه كيف يمكنه إتمام المناسك! والشخص الذي تضل راحلته، أو تضيع نقوده كيف يستطيع متابعة السفر، مع أنه لم يعد يملك نفقة ولا زاداً؟ وهل يكلفه الإسلام أن يستجدي من الناس؟!
وهذا الذي رجحناه هو الذي اختاره شيخ المفسرين (ابن جرير الطبري) رحمه الله حيث قال ما نصه: وأولى التأويلين بالصواب في قوله: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} تأويل من تأوله بمعنى: فإن أحصركم خوف عدو، أو مرض، أو علة من الوصول إلى البيت، أي صيّركم خوفكم أو مرضكم تحصرون أنفسكم. ولو كان معنى الآية ما ظنه المتأول من قوله: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} فإن حبسكم حابسٌ من العدو عن الوصول إلى البيت، لوجب أن يكون: فإن حصرتم.
أقول ويؤيده ما روي في (الصحيحين) عن عائشة رضي الله عنها قالت: «دخل النبي صلى الله عليه وسلم على ضُباعة بنت الزبير بن عبد المطلب، فقالت: يا رسول الله إني أريد الحج وأنا شاكية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم حُجّي واشترطي أن مَحَلّي حيث حبستني» فقد دل على أن المرض من الأسباب المبيحة للتحلل، وهذا ما يتفق مع سماحة الإسلام ويسر أحكامه.
الحكم الثالث: ماذا يجب على المحصر، وأين موضع ذبح الهدي؟
الآية الكريمة صريحة في أن على (المحصر) أن يذبح الهدي لقوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا استيسر مِنَ الهدي} وأقله شاة، والأفضل بقرة أو بدنة، وإنما تجزئ الشاة لقوله تعالى: {فَمَا استيسر} وهذا رأي جمهور الفقهاء، وروي عن ابن عمر أنه قال: بدنة أو بقرة ولا تجزئ الشاة، والصحيح رأي الجمهور.
وأما المكان: الذي يذبح فيه هدي الإحصار فقد اختلف العلماء فيه على أقوال:
فقال الجمهور (الشافعي ومالك وأحمد): هو موضع الحصر، سواءً كان حلاً أو حرماً.
وقال أبو حنيفة: لا ينحره إلا في الحرم لقوله تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَآ إلى البيت العتيق} [الحج: 33].
وقال ابن عباس: إذا كان يستطيع البعث به إلى الحرم وجب عليه، وإلاّ ينحره في محل إحصاره.
قال الإمام الفخر: ومنشأ الخلاف البحث في تفسير هذه الآية، فقال الشافعي: المحِلّ في هذه الآية اسم للزمان الذي يحصل فيه التحلل، وقال أبو حنيفة: إنه اسم للمكان.
الترجيح: والراجح رأي الجمهور اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أحصر بالحديبية ونحر بها وهي ليست من الحرم، فدلّ على أن المحصر ينحر حيث يحل في حرمٍ أو حل، وأما قوله تعالى: {هَدْياً بَالِغَ الكعبة} [المائدة: 95] وقوله: {ثُمَّ مَحِلُّهَآ إلى البيت العتيق} [الحج: 33] فذلك- كما يقول الشوكاني- في الآمن الذي يمكنه الوصول إلى البيت، والله تعالى أعلم.
الحكم الرابع: ما هو حكم المتمتع الذي لا يجد الهدي؟
دل قوله تعالى: {فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة إِلَى الحج فَمَا استيسر مِنَ الهدي} على وجوب دم الهدي على المتمتع، فإذا لم يجد الدم- إما لعدم المال، أو لعدم الحيوان- صام ثلاثة أيام في الحج، وسبعة أيام إذا رجع إلى أهله.
وقد اختلف الفقهاء في هذا الصيام في قوله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الحج...} الآية.
فقال أبو حنيفة: المراد في أشهر الحج وهو ما بين الإحرامين (إحرام العمرة) و(إحرام الحج) فإذا انتهى من عمرته حلّ له الصيام وإن لم يحرم بعد بالحج، والأفضل أن يصوم يوم التروية، ويوم عرفة، ويوماً قبلهما يعني (السابع، والثامن، والتاسع) من ذي الحجة.
وقال الشافعي: لا يصح صومه إلا بعد الإحرام في الحج لقوله تعالى: {فِي الحج} وهي من عند شروعه في الإحرام إلى يوم النحر، والأصح أنها لا تجوز يوم النحر، ولا أيام التشريق، والمستحب أن تكون في العشر من ذي الحجة قبل يوم عرفة.
ويرى بعض العلماء أن من لم يصم هذه الأيام قبل العيد، فله أن يصومها في أيام التشريق، لقول عائشة وابن عمر رضي الله عنهما (لم يرخص في أيام التشريق أن يُصَمْن إلا لمن لا يجد الهدي).
ومنشأ الخلاف بين (الحنفية) و(الشافعية) هو اختلافهم في تفسير قوله تعالى: {ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الحج} فالحنفية قالوا في أشهر الحج، والشافعية قالوا: في إحرام الحج، وبكلٍ قال بعض الصحابة والتابعين.
وأما السبعة أيام فقد اختلف الفقهاء في وقت صيامها.
فقال الشافعية: وقت صيامها الرجوع إلى الأهل والوطن لقوله تعالى: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ}.
وقال أحمد بن حنبل: يجزيه أن يصوم في الطريق ولا يشترط أن يصل إلى أهله ووطنه.
وقال أبو حنيفة: المراد من الرجوع الفراغ من أعمال الحج وهو مذهب مالك رحمه الله.
قال الشوكاني: والأول أرجح فقد ثبت في (الصحيح) من حديث ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال: «فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع إلى أهله».
وثبت أيضاً في الصحيح من حديث ابن عباس بلفظ (وسبعةٍ إذا رجعتم إلى أمصاركم).
الحكم الخامس: ما هي شروط وجوب دم التمتع؟
قال العلماء: يشترط لوجوب دم التمتع خمسة شروط:
الأول: تقديم العمرة على الحج، فلو حج ثم اعتمر لا يكون متمتعاً.
الثاني: أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج.
الثالث: أن يحج في تلك السنة لقوله تعالى: {فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة إِلَى الحج}.
الرابع: ألا يكون من أهل مكة لقوله تعالى: {ذلك لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المسجد الحرام}.
الخامس: أن يحرم بالحج من مكة، فإن عاد إلى الميقات فأحرم بالحج لا يلزمه دم التمتع.
وقال المالكية: شروطه ثمانية وهي كالتالي (1- أن يجمع بين الحج والعمر 2- في سفر واحد 3- في عام واحد 4- في أشهر الحج 5- وأن تقدم العمرة على الحج 6- وأن يكون إحرام الحج بعد الفراغ من العمرة 7- وأن تكون العمرة والحج عن شخص واحد 8- وألاَّ يكون من أهل مكة).
الحكم السادس: من هم حاضرو المسجد الحرام؟
دل قوله تعالى: {ذلك لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المسجد الحرام} على أنّ أهل الحرم لا متعة لهم، وهذا مذهب ابن عباس وأبي حنيفة، وقال (مالك، والشافعي، وأحمد) إن للمكي أن يتمتع بدون كراهة وليس عليه هدي ولا صيام، واستدلوا بأن الإشارة تعود إلى أقرب المذكور، وأقرب المذكور هنا وجوب الهدي أو الصيام على المتمتع، وأما أبو حنيفة فقد أعاد الإشارة إلى التمتع، والتقدير: ذلك التمتع لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام. وقد اختلفوا في المراد من قوله تعالى: {حَاضِرِي المسجد الحرام}.
فقال مالك: هم أهل مكة بعينها، واختاره الطحاوي ورجحه.
وقال ابن عباس: هم أهل الحرم، قال الحافظ: وهو الظاهر.
وقال الشافعي: من كان أهله على أقل مسافة تقصر فيها الصلاة، واختاره ابن جرير.
وقال أبو حنيفة: هم أهل المواقيت ومن وراءها من كل ناحية.
أقول: لعل ما ذهب إليه المالكية هو الأرجح والله تعالى أعلم.
الحكم السابع: ما هي أشهر الحج؟
واختلف العلماء في المراد من قوله تعالى: {الحج أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ} ما هي هذه الأشهر؟
فذهب مالك: إلى أن أشهر الحج (شوال، وذو القعدة، وذو الحجة كلّه) وهو قول (ابن عمر) و(ابن مسعود) و(عطاء) و(مجاهد).
وذهب الجمهور (مالك، والشافعي، وأحمد): إلى أن أشهر الحج (شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة) وهو قول ابن عباس، والسدي، والشعبي، والنخعي، وأما وقت العمرة فجميع السنة.
قال الشوكاني: وتظهر فائدة الخلاف فيما وقع من أعمال الحج بعد يوم النحر، فمن قال: إنّ ذا الحجة كله من الوقت لم يُلْزمه دم التأخير، ومن قال: ليس إلا العشر منه قال: يلزم دم التأخير.
الحكم الثامن: هل يجوز الإحرام بالحج قبل أشهر الحج؟
اختلف الفقهاء فيم أحرم بالحج قبل أشهر الحج هل يصح إحرامه؟ على أقوال:
الأول: روي عن ابن عباس أنه قال: من سُنّة الحج أن يحرم به في أشهر الحج.
الثاني: فذهب الشافعي أن من أحرم بالحج قبل أشهر الحج لم يجرُّه ذلك ويكون عمرة، كمن دخل في صلاة قبل وقتها فإنه لا تجزيه وتكون نافلة.
الثالث: مذهب أحمد بن حنبل أنه مكروه فقط ويجوز الإحرام قبل دخول أشهر الحج.
الرابع: مذهب أبي حنيفة جواز الإحرام في الحج في جميع السنة كلها وهو مشهور مذهب مالك، واستدلوا بقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج} [البقرة: 189] وقالوا: كما صح الإحرام للعمرة في جميع السنة، كذلك يجوز للحج.
قال العلامة القرطبي: وما ذهب إليه الشافعي أصح لأن هذه عامة وتلك الآية خاصة والخاص يقدم على العام وقد مال إلى هذا المذهب الشوكاني ورجحه لأنه موافق لظاهر النص الكريم.
الحكم التاسع: ما هي محرمات الإحرام؟
حظر الشارع على المحرم أشياء كثيرة، منها ما ثبت بالكتاب، ومنها ما ثبت بالسنة، ونحن نذكرها بالإجمال فيما يلي:
أولاً: الجماع ودواعيه، كالتقبيل، واللمس بشهوة، والإفحاش بالكلام، والحديث مع المرأة الذي يتعلق بالوطء أو مقدماته.
ثانياً: اكتساب السيئات، واقتراف المعاصي، التي تخرج الإنسان عن طاعة الله عز وجل.
ثالثاً: المخاصمة والمجادلة مع الرفقاء والخدم وغيرهم.
والأصل في تحريم هذه الأشياء قوله تعالى: {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحج} وهذه كلها بنص الآية الكريمة.
روى البخاري في (صحيحه) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من حجّ فلم يرفث، ولم يفسق، رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه».
وقد ثبت بالسنة بعض المحرمات كالتطيب، ولبس المخيط، وتقليم الأظافر، وقص الشعر أو حلقه، وانتقاب المرأة، ولبسها القفازين.. إلى أخر ما هنالك من محرمات وهذه تعرف من كتب الفروع.
الحكم العاشر: ما هو حكم الوقوف بعرفة، ومتى يبتدئ وقته؟
أجمع العلماء على أن الوقوف بعرفة هو ركن الحج الأعظم، لقوله صلى الله عليه وسلم: «الحج عرفة، من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك».
ويرى جمهور العلماء أن وقت الوقوف يبتدئ من زوال اليوم التاسع، إلى طلوع فجر اليوم العاشر، وأنه يكفي الوقوف في أي جزء من هذا الوقت ليلاً أو نهاراً، إلا أنه إذا وقف بالنهار وجب عليه مد الوقوف إلى ما بعد الغروب، أما إذا وقف بالليل فلا يجب عليه شيء.
وقد روي عن الإمام (مالك) رحمه الله أنه إذا أفاض قبل غروب الشمس لم يصح حجه وعليه حج قابل، قال القرطبي: واختلف الجمهور فيمن أفاض قبل غروب الشمس ولم يرجع ماذا عليه؟فقال (الشافعي وأحمد وأبو حنيفة) عليه دم، وقال (مالك) عليه حج قابل، والهدي ينحره في حج قابل وهو كمن فاته الحج.